المختصر المفيد في قضية القدس
• عام 1947، قامت الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين لجزئين كحل وسط، أحدهم لليهود والآخر للعرب والقدس، بسبب وضعها بالغ الحساسية لجميع الأديان، تم تصنيفها كـcorpus separatum أو جسد منفصل عن الكل، أو بعبارة أخرى منطقة تابعة للسيطرة الدولية (خارج أي سلطة منفردة أو مطلقة لليهود أو العرب.)
.
• مباشرة بعد تأسيس دولة إسرائيل وإنتصارها في حرب 48 أو ما يسمى النكبة، استطاعت إجتياح مناطق لم تكن داخل حدودها السابقة (من ضمنها أجزاء من القدس) وأعلنت القدس عاصمة للبلاد. القدس وقتها كانت كانت دوليًا مقسمة إلى شطرين، الجزء الشرقي (ويحوي ما يسمى "البلدة القديمة" أو الOld City وهي نواة مدينة القدس الذي بنيت حوله باقي المدينة وهذا أحتلته الأردن بعد 48) والجزء الغربي، وهذا هو الجزء الذي كان مفترض أن يتبع السيادة الإسرائيلية بلا مشاكل إذا ما توصل وقبل الطرفين حل الدولتين، والقدس الشرقية كانت مخصصة للفلسطنيين ودولتهم إذا قامت. والمناطق التي لم تدخلها إسرائيل هي الضفة الغربية وغزة، الضفة الغربية أبتلعتها الأردن، وغزة لاحقــًا تم وضعها تحت السيادة المصرية (على فترتين منفصلتين ولكن متقاربتين جدًا منذ 1948 إلى 1967) وتم تشكيل "منظمة التحرير الفلسطينية" PLO عام 1964 للسعي وراء فكرة دولة فلسطينية مستقلة.
.
• بسبب الجدلية الكبيرة جدًا في موضوع القدس ووضعها وأن حل الدولتين مازال رهن الإحتمال، لم تعترف أي دولة في العالم بالقدس عاصمة لإسرائيل (من ضمنهم الولايات المتحدة وكذلك الأمم المتحدة) وبالتالي جميع السفارات تم وضعها في تل أبيب وتعاملت باقي الدول مع تل أبيب على أنها العاصمة الرسمية للبلاد.
.
• عقب كارثة 1967 أستطاعت إسرائيل إحتلال الضفة الغربي (وطبعًا هضبة الجولان في سوريا) وغزة وسينا وأهم شيء الجزء الشرقي من القدس وأعلنت أن هذا هو "إعادة توحيد القدس" وبعدها ضمت القدس بالكامل للدولة وبعدها (عام 1980) أصدر الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قرارًا بأن "القدس كاملة وموحدة هي العاصمة للبلاد" جميع ما سبق لم تعترف به الأمم المتحدة وأعتبرته إنتهاك صريح لجميع الأعراف الدولية وأدانته في القرار الشهير 478 وأدانه مجلس الأمن لاحقــًا في قرارات عدة وهذا هو رأي الأمم المتحدة حتى يومنا هذا، أن السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية هو إحتلال ومخالف للقانون الدولي، ولكن إسرائيل حاولت المضي قدمًا على أي حال وحاولت إقناع دول العالم وخاصة القوى العظمى بأن تعترف بالقدس عاصمة لها، والأكثر هو أن تتعامل مع هذا الموضوع كأمر واقع وبالفعل وليس مجرد كلام أو إعلانات (أي ينقلوا السفارات والروابط الدبلوماسية من تل أبيب للقدس) ولكن حتى وقت قريب لم تستجيب تقريبًا أي من القوى العظمى لهذا الطلب إلا روسيا في بداية هذا العالم ولكنها لم تعترف سوى بالجزء الغربي فقط ونادت بالجزء الشرقي كعاصمة لدولة فلسطينية بعد بدء مفاوضات جديدة. وكذلك الرئيس الصيني "شي چنبنج" يقول بأن الصين تدعم فكرة القدس الشرقية كعاصمة للفلسطنيين.
.
• في الولايات المتحدة الأمر أكثر تعقيدًا. منذ تأسيس إسرائيل والسفارة الأمريكية مقرها في تل أبيب لأن الولايات المتحدة تعترف بإسرائيل في سياق القرار 181 للأمم المتحدة الذي لا يضم القدس لحدود إسرائيل، السفارة الأمريكية نفسها متواجدة في شارع أسمه "هياركون" في مبنى متواضع نسبيًا مقارنة بهيبة السفارة الأمريكية ودائمًا ما كان هناك إعتبار لفكرة نقل السفارة لمبنى آخر أكثر قوة وملائمة للغرض (في نفس المدينة) ولكن بعد حرب 1967 وبعد قرار الكنيست عام 80 بتعيين القدس عاصمة لإسرائيل، أوقفت الحكومة الأمريكية خطط نقل السفارة في مكان آخر بداخل تل أبيب لتدبر فكرة نقلها للقدس وأصبحت فكرة نقل السفارة للقدس جزءًا من حملات الرئاسة الأمريكية منذ وقت جورج بوش الأب تقريبًا في الثمانينات ولكن لم تؤخذ لمستوى كبير من الجدية إلا في عهد بيل كلينتون. بيل كلينتون كان جزء من حملته الإنتخابية عام 1992 هو الهجوم على تخاذل جورج بوش الأب في نقل السفارة للقدس ولكن هذا نفسه ما سيفعله كلينتون لاحقــًا لنفس أسباب جورج بوش الأب تقريبًا.
.
• بعد أول أسبوع في رئاسة بيل كلينتون حدثت خطوة إيجابية في عملية السلام والمفاوضات بين الطرف الإسرائيلي والفلسطيني وهي إنتهاء الإنتفاضة الأولى (التي بدأت عام 1987 وقـــُتل فيها 2,000 فلسطيني وأكثر من 300 إسرائيلي) وتم تمهيد الطريق لما يسمى "معاهدة أوسلو" في نفس العام حيث السلطة الفلطسينية تعترف بإسرائيل وبالمقابل تعترف إسرائيل بالسلطة الوطنية الفلسطينية وحكمها في بعض المناطق، ولذلك كلينتون أصبح حذرًا بشدة من قرار أن يعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل كما وعد لكي لا ينهار دور الولايات المتحدة كوسيط في عملية السلام ومستشاريه أيضــًا أيدوه في هذا السلوك (على الرغم من أنه حتى أخر رئاسته كان يعبر دائمًا عن رغبته في الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة هناك وأنه يعتقد بداخله أن هذا هو الشيء الصحيح ولكن للواقع أحكام) ولذلك بيل كلينتون أعترف تقريبًا بالقدس كعاصمة لإسرائيل بداية من عام 1993 وأن إسرائيل تتصرف كذلك ولكن لم يعلن ذلك في أي بيان رسمي كما فعل ترامب في الأمس.
.
• على خلفية إعتراف كلينتون بالقدس كعاصمة لإسرائيل قام فرعي الCongress الأمريكي، الSenate أو مجلس الشيوخ، والHouse of Representatives أو مجلس النواب بالتصويت على نقل السفارة للقدس والقرار مر بأغلبية ساحقة في الفرعين، بنسبة 93 - 5 اصوات في الSenate ولاحقــًا في نفس اليوم بنسبة 374 - 37 صوت في الHouse ويسمى الJerusalem Embassy Act وأصبح القرار قانونــًا حتى بعد إعتراض الرئيس بيل كلينتون عليه وهذا القرار هو ذريعة ترامب القانونية فيما فعله بالأمس. الشيء الواجب معرفته عن القانون الأمريكي هو أن الرئيس من حقه أن يوقع ما يسمى waiver أو قرار تأجيل (أو تجنب،) وهو آداة قانونية تسمح للرئيس بتأجيل تفعيل قانون ما أو بعض مواده إلى وقت لاحق لإعتبارات مختلفة، ولذلك كلينتون أعترف ضمنيــًا بالقدس كعاصمة لإسرائيل ولكنه أجّل فكرة نقل السفارة حتى عام 1999 (ظاهريًا لتجميع الأموال الكافية والتخطيط الكافي لنقل السفارة ولكن واقعيًا كما كان يعلن دائمًا هو أن هذا القرار سيكون مسمار كبير جدًا في نعش عملية السلام لأن قضية القدس ووضعها هي أهم نقطة وأكثرهم محورية في كل القضية الفلسطينية.
.
• وظل بيل كلينتون يمضي waiver بعد waiver (مدة كل منهم 6 أشهر) ورئيس بعد رئيس في أمريكا يمضوا waivers كل 6 أشهر ليعتقهم من مسؤولية نقل السفارة للقدس (على الرغم من أن جورج بوش الابن كان جزء كبير من حملته هو الهجوم على تخاذل كلينتون في قرار نقل السفارة!) وتم التوقيع على أكثر من 40 waiver من رؤساء أمريكا وهذه المرة أيضــًا إعلان ترامب يحتوي على waiver يؤجل نقل السفارة على الأقل 6 أشهر وكلامه يشبه كلام الرؤساء السابقين وتوجد إحتمالية كبيرة ألا ينفذ وعده كما فعل كلينتون وبوش، ولكن هذه المرة الموضوع مختلف نسبيًا بسبب وجود شخصيات مثل David Friedman في إدارة وترامب، ومثل Chuck Schumer في الكونجرس، ولكن لا يمكن التأكيد على أي شيء في اللحظة الراهنة. أيضـًا الجدير بالذكر أن الwaivers الرئاسية الأمريكية كانت من أكبر بواعثها هي الأحداث المشتعلة الساخنة جدًا في المنطقة في بدء الألفية الجديدة وهي بإختصار بدء الإنتفاضة الثانية في عام 2000 بعد إمتعاض الفلسطنيين من نتائج معاهدة أوسلو مما تسبب في مقتل 1,000 إسرائيلي و3,200 فلسطيني ولكن تم القضاء عليها بحلول عام 2005 وكنتيجة مباشرة لها تم بناء الجدار العازل ما بين المناطق الإسرائيلية والمناطق تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، وعام 2005 أنسحب إسرائيل من قطاع غزة، وعام 2007 تمكنت حماس من السيطرة على السلطة في غزة وقطعت العلاقات مع السلطة الوطنية الفلسطينية مما أدى لصدع وإنفصال تام تقريبًا ما بين غزة والضفة الغربية، ولكن في عام 2017 حدثت معاهدة مرة أخرى ما بين الطرفين تمنح السلطات الفلسطينية السيطرة على غزة مقابل تخفيف الحصار الإقتصادي.
.
• ماذا يعني القرار وما هي تبعاته؟
تصريح ترامب بالأمس يمثل نقلة نوعية بعض الشيء في الموقف الأمريكي، فبعد سنوات من التأجيل والوعود لأول مرة رئيس أمريكي يعلن بشكل رسمي عن نية صريحة لنقل السفارة. الموضوع في تقديري الشخصي لن يتسبب في تغير جذري في الموقف الدولي ولن تتبع الغالبية العظمى من الدول أمريكا في هذا القرار وخاصة أن بالفعل بريطانيا والقوى العظمى أعربت عن بالغ إستيائها ومعارضتها للقرار الأمريكي ولم تعرب أي دولة في العالم عن رغبة في نقل سفاراتها للقدس سوى الفلبين (بشكل غامض ومبدأي جدًا وغير مؤكد) ودولة من شرق أوروبا غير معلن عن أسمها.
.
القرار للأسف غريب جدًا وبلا أي جدوى أو داعي ويمكن إعتباره أغبى شيء وأكثرهم إنعدامًا للجدوى لأي طرف (مهما توهم عكس ذلك) بعد المستطونات الإسرائيلية وسيتسبب في إعاقة عملية السلام التي بالفعل في مرحلة متعثرة جدًا وتحتضر إن لم تكن قد ماتت بالفعل مع مهمة چون كيري عام 2014 ولكن بعد هذا القرار ربما تفشل أي محاولة لإحياءها مرة أخرى في أي وقت قريب (على الرغم من تأكيد ترامب أكثر من مرة على إستمرار إلتزام الولايات المتحدة بالسلام وحل الدولتين إذا أرادت جميع الأطراف.) وبالنسبة للغالبية العظمى من الفلسطنيين ستكون هذه الضربة القاصمة لآمالهم في الوصول للحلول بطريقة دبلوماسية والأخطر من ذلك أنه سيؤدي لزيادة التخلخل في أكثر منطقة مختلة في العالم بالفعل وجميع دول العالم تقريبًا وحتى الكثير من قادة الطوائف الدينية في القدس أبدت إستيائها من القرار وإحتمالية تأديته لإضطراب قاتل وحتى عنف وصراع جحيمي ما بين الطوائف في التلك المنطقة. ولكن المعالم والتوابع الحقيقية والفعلية للموضوع ستظهر بشكل واضح وجلي بعد 6 أشهر من الآن إذا أبر ترامب بالفعل وعده في نقل السفارة.
Mahmoud M. Mahdali